13 أكتوبر 2011

أن تقتل..


القتل.. أن تُمسك بأحدهم و تمزقهُ بكل ما أوتيت من قوة .. تُخرج أحشائه و تُعلقه بها .. ثم تُخرج قلبه _إن وجدته بالطبع_ لتدهسه بقدميك معاً و بكل وزن جسدك حتى لا يتبقى سوى بعض الدماء منهُ .. يتحول إلى بقعة دماء كبيرة لكنها أصغر من جرح قلبك حينها ستعرف أنهُ قتلك بأشد الوسائل قسوة و أنك كنت رحيماً بهِ جداً فتحاول أن تعيد بقاياه إلى الحياة فتجد أن الحياة انتهت بنهايتهِ , لتدفنهُ و تدفن نفسك استعداداً ليوم القيامة .
***
القتل.. أن تُمسك بسكين فتقطع وريد رقبة أحدهم ليظل يئن و ينزف أمامك .. لكنه يتفوق عليك لآخر لحظة في حياته فيموت دون أن تسيل نقطة دماء واحدة.
***
القتل.. أن تُمسك بسيف و تقطع رقبة أحدهم في ثوانِ, لتسقط رأسه بين يديك و على محياه ضحكة متشفية لأنه سيترك لك أشباحه كي تقتلك وجعاً.
***
القتل هو.. أن يُمسك بإرادة الوجع في كلماتهِ, فيُلقي عليك مايود من وجع وقتما يشاء فتموتَ دون كلمة لأن الوجع يشل و يجعلك تصمت .. كل ما حكيتهُ لم يكن قتلاً و لكن ما فعلهُ.. هو القتل الخالص لوجه الموت.
...

The painting: Angry Red women by Brandi Slovinsky

غرفة ذات طلاء قديم و موكيت روز



أستيقظُ قبيل الفجر بساعة أو أكثر كعادة يومية لم تنقطع منذ ستة أعوام.. أظلُ مغلقة العينان حتى يتسنى لي استيعاب السكون من حولي, صوت الراديو يصدح كخلفية تأتي من مكان بعيد, ربما من السماء حيثُ تنتظرني منذ رحلت, قبل رحيلك لم أكن أستيقظ قبل السادسة و أنهض راكضة و متأججة بنشاط دائم كي أعد ملابسك و الافطار وأستحم ثم أوقظك لتبدأ نهارك معي.

تكره المكرونة و ابنتي تحبها على الرغم أنها تُشبهك في طريقتك, كل يومٍ تزداد عنداً و لامبالاة, تؤمن أن الحياة تحتاج بعض الملل في حبها كي لا ننكسر في قسوتها كما آمنت, لكن قلبك لم يحتمل قسوة الحياة فتوقف عن الدق لتتوقف عن مشاركتي تفاصيل يومك, لم أعد أجدك لأفتعل مشادة عن القائك ملابسك في كل مكان, فأنثر ملابسك في غرفتنا و أوبخ نفسي عن عدم التنظيم فألملمها و أتشممها ثم أعلقها في دولابنا من جديد و اتأملها, تلك البدلة التي في لون السكر كانت تجعلك وسيماً بسمرتك الهادئة, كنتُ أظل أعدل في ياقة قميصك و أفرد الجاكيت ثم أركع كي أعدل البنطلون مع الحذاء ليصبح منمقاً دون أي خطأ يشوبه, ثم نخرج فتحدثك زوجة ذلك الصديق بميوعة أستشعرها من نظراتها و ماآن نعود للبيت حتى ابدأ في اطلاق دفقات من النار بهدوء في أول الأمر و أنا أمثل انهماكي في ترتيب ملابسك التي خلعتها _وأنت مبتسم لصغر عقلي_ فيبدأ الجحيم مني لتخرج بهدوء تجلس بجوار ابنتك لتُشاهدا فيلماً قديماً و تتركاني أقذف كل وجع الغيرة و أنا أذرع البيت جيئة و ذهاباً لا أفعل شيئاً محدداً حتى اهدأ و ابدأ في تحضير العشاء و كأن شيئاً لم يكن و في غرفتنا أقبل رأسك باكية فتربت ضاحكاً معللاً بأنك تعودت على جنوني فلقد تزوجتني منذ كنتُ في الخامسة عشر, لم أكن زوجتك فقط, كنت ابنتك و مازلت.
رحلت ولم يعد بامكاني أن أغير أو أناوشك, فأصبحت أذهب لقبرك أشكو لك عِنّد ابنتك وقسوة الحياة و تَغَيُر الناس ثم ابدأ تأنيبك على رحيلك: (لم يكن اتفاقنا أن تتركني فلقد أخبرتني أنك أصبحتَ في مأمن عن الموت صغيراً لأنك تجاوزت ذلك ذلك السن الذي مات فيهِ أبوك و جدك و أصبحتَ مؤهلاً أن تعيش للثمانين كأعمامك, لكن الموت أعطاك مهلة فقط لتبلغ ابنتنا سن الواحد والعشرين, كانت مهلة خادعة أعطتنا الأمان لترحل فجأة.. كيف تجرؤ على الرحيل؟)

أعود من زياراتك بعينين متورمتين من البكاء فتتجاهلني ابنتك كأنها لم ترى أي شيئ, دوماً لا تحب أن تتدخل في أوجاعي كأنها تخشى العدوى مني, ربما هي فقط تفضل أن تظل متماسكة بقناع ثلجي على وجهها لكنها ما آن تسمع صوت مفاتيح على السلم تفضحها عيناها بنظرتها المسمرة على باب الشقة كأنها تنتظر دخولك ثم تعود للواقع فتقوم لتدفن نفسها في أي كتاب من كتبها العديدة دون أي تعليق, يوم موتك ظلت صامتة مثلك يوم موت أمك, كأنها ميتة لم تنطق سوى بتلك الكلمات الآلية التي ترد بها تعزية النسوة, فقط صرخت وقت خروجك ثم عادت لصمتها من جديد ولمدة عام ظلت ساهمة, ربما مازالت كذلك لكنها تداري كما كنت تفعل دوماً.

بيتنا أصبح خانقاً من دونك, كئيباً, بحوائطهِ الزيتية الغامقة و أرضيتهِ السوداء, لذا ما آن اقترحت ابنتنا أن نغير الدهانات و الأرضية في جملة عابرة _لم تكن تنوي تنفيذها حقاً_, حتى قررتُ تنفيذها ربما يقل الاكتئاب و تتذكر الحياة أننا مازلنا فيها, بدأت بالاتفاق مع العمال و اخترنا ألواناً فاتحة و بدأنا التغيير في ذلك الصيف بعد وفاتك بأربعة أعوام, لقد غيرت ابنتنا غرفتها و اشترت تلك المكتبة الكبيرة التي ظلت تحلم بها طوال عمرها حتى يتسنى لها رؤية كتبها جميعاً بنظرة واحدة و وضعت صورة لك بالأبيض و الأسود في منتصف المكتبة, كأنها تود أن تتذكرك و أنت دون هموم حقيقية .. كل صورك قبيل موتك كانت تنطق بالتعب من الاستمرار في الحياة, أنتَ تعرفُ أنها لا تحب تذكر الوجع والحزن لكنها حزينة دائماً لها عيون لوامة تصرخ دون كلام.. مثلك.
ما آن وصلوا لغرفتنا حتى تسمرتُ, كيف سيغيرون ذلك الموكيت الروز الذي اخترتهُ معك؟ سيتخلصون من تلك البقع المحترقة في أرضيته التي تذكرني بتدخينك و سهوك الدائم؟ طلاء الحوائط البيج الغامق الذي اخترناه في التسعينات حينما كان هو الرائج؟ تتذكر تلك التفاصيل و كيف أنك اشتريت لي في هذا البيت غرفة نوم جديدة و كأنك تتزوجني من جديد.. كيف سأغير تلك التفاصيل التي اخترتها معك؟ حينها قررتُ أن تظل غرفتنا كما هي وتحججتُ بأنه لا وقت ويجب أن ننتهي سريعاً, أعلم أن الوقت متاح لأنني في الواقع لا شيئ ورائي يدعوني للاستعجال لكنني قررتُ أن تظل رائحتك مستمرة في غرفتنا, كيف سأستبدل رائحتك برائحة زيت جديد مقزز يطرد أنفاسك التي مازالت هنا.. لقد تجرأتُ و غيرت التفاصيل حتى لا تظل تهيم في البيت كله.. فقط تظل هنا في غرفتنا حتى لا أبحثُ عنك ليلاً حتى أناجيك, فقط سأغلق الباب و أغير قميصي الأسود لأنك تكره الأسود ,وأجلس على ذلك الموكيت و حولي الجدران القديمة و أفتح دولابك و أذكرك بذلك القميص اللبني الذي كنت ترتديه فتصبح شبيهاً بممثلين السينما و أتحسس البقع المحترقة فابتسم متذكرة كيف كنتُ أظل أنهاك عن التدخين في غرفة نومنا و أخبرك أن لدينا بلكونة تصلح للتدخين, و الآن كم أنا فرحة أنك لم تسمع كلامي لتبقى رائحة دخانك هنا كي أتشممها, ثم أضحك متذكرة يوم أن أحرقت ذلك القميص البيج وأنت مُتعجل للخروج ثم أبكي لأنك لم تعد معي حتى أسمع صخب ضحكتك.

sadness painting by Noredin Morgan

برودة





  أنت ضعيف لا لأنك هربتَ فقط ، ولكن لأنك تحاول تبرير تعاستك ، ارفع رأسك وامشِ باستقامة ، ولا تستسلم للبرودة ، البرودة قاتلة حين نسترخي وننساق لها.
واسيني الأعرج
****
قضمة صقيع للقلب, و ما أنا سوى قلب و حين يحاوطه الصقيع تتجمد الدموع و تزرق أطرافي لتتجمد الكلمات على مرافئ الحزن\الغضب\الدهشة.

**
في حزني الغاضب أشيعُ الحياة في جنازة قذرة تُشبهها, لا كفن لها و لا رحمة فقط دعوات من قلبي بحرق العالم أجمع.
**

رعشة مستمرة في جسدي تجعل وقوفي على قدميّ معجزة بائسة لن تحدث.. التفاصيل حولي مهتزة ربما من الرعشة أو لأن كل الأشياء التي أعتقدتها ثابتة لم تكن هنا في الواقع لكنني تخيلتها .. فليذهب خيالي إلى أرض الواقع و ليحترق.
**

حينما تخبرنا البدايات عن طريقنا نحو قمة الجبل الذي سنُلقي بأنفسنا منهُ.. فلنُلقي بأنفسنا في هدوء دون ضجة لأننا مشينا الطريق.
**

الحياة ليست سوى ولادة و موت يتكرران كثيرا حتى يأتي الموت الحقيقي فلا نهابهُ لأنهُ الموت الأخير.
**
تنميل أصابعي لا يعني أنني سأعجز عن حرق ذلك العالم, فلنرقد جميعا في الجحيم بهدوء.
**
ربما سينجو العالم من الاحتراق فقط لأنه تجمد موتاً.
**
اياكم و تقوى الله لأنكم ستصبحون كائنات تستحق انسانيتها .. وحاشا لله أن تصبحوا!
*** 
Photo by Frozenpandaman

06 سبتمبر 2011

شجرة عجفاء تستند على حائط من الشمع المنصهر


مزاجي أصبح مضطرباً بالرغم من كوب الشاي الممتزج بمذاق الفاكهة الاستوائية, روحي أصبحت تشبه قطعة مخمل فقدت نعومتها الدافئة لتصبح دون شكل محدد, دوماً هناك فترات وهن تجعلني استسلم لحزن غير مبرر, الحياة لم تختلف في تقديمها لنفسها لكنني لم أعد احتملها, ذكريات طفولتي بهتت و قاربَ النسيان على التهامها كاملة, ربما لعطب في الذاكرة أو بتحريض مني حتى لا أحزن لأن طفولتي لم تستمر.
أصبحتُ أنسى الجملة التي أكتملت في الثانية التي تسبق كتابتها مباشرة, الذكريات تتلوى مني و الجمل تهرب فأظل وحيدة دونهما.. أزرق الحزن يمتزج بأسود اليأس في لوحة مكتملة عن وهم الحياة, أغلق الأبواب و الشبابيك لخوفي من تسلل سحابة رمادية أو قطعة من سواد الليل المقيم, طبيعة التفاصيل متقلبة لا تشي بثبات ما يُفرح أو يُحزن, الكتابة مخيفة لأنها ربما توزع قطع من اليأس \ الوجع \ الحزن المجاني لمن لا أرغب في ايذائهم.
افتقد ليلاً صافياً دون تفاهات تلفزيونية سخيفة. لكني استسلم لتلك التفاهات لأنني أكره مواجهة نفسي, أيامي كلها أصبحت خاوية تُشبه شجرة ظل جذعها و اختفت الأوراق و الثمار, شجرة عجفاء قبيحة لا تُشبه نفسها, قطعة خشب ربما يقطعونها غداً و يصنعون منها كراسي توضع في مقهى تافه يرتاده أشباه البشر.
الحياة معقدة أكثر من احياء الموتى, ذلك الأخير واضح جداً لأنه معجزة إلهية و انتهت بنهاية زمن الأنبياء والمعجزات, لكن الاستمرار في الحياة لم يخبروني أنهُ معجزة! كنت أستغرب نفسي أنني في أحلك المواقف كنتُ أظل واقفة وعقلي يطالب باغماءة بسيطة كهدنة اجبارية و تحقق طلبهُ هذا العام لكني حزنت أن الحياة أصرت على جعل حمولها أكبر مني. حزني أصبح هيستيرياً يخبط الأرض بقدميه و يصرخ فيتردد الوجع في القلب كصدى صوت لا ينتهي.
كيف أخبر الدنيا بأني أستسلم مؤقتاً كهدنة لكلينا؟ لستُ ممن يستسلمون لباقي الحياة, سأجلس ساندة ظهري على حائط من الشمع المُنصهر لدقيقة أو اثنتين حتى يحترق ظهري قليلاً فأنهض لأكمل عنادي بقوة ألم الحرق, كل ما أوده هو حائط الشمع المنصهر لأرتاح قليلاً الآن.

The painting: Despair by Jaime Best


06 أغسطس 2011

أماكن تحمل طاقة حزينة



هناك أشياء صغيرة كانت حميمية بالنسبة لي, مجرد النظر لكُتبي و غرفتي و تلك التفاصيل التي ارتضيت بها طوال العمر كفرحة سرية لقلبي, لم تعد تفرحني, أفراحي الصغيرة أصبحت محزنة للقلب.
حبيبي الذي أحببتهُ و ربطتُ بهِ فرحتي, تمنيتُ أن يشاركني أشيائي الصغيرة حتى تتوهج الفرحة من القلب, لكن الزمن يُصر أن تبقى أشيائي في مكان و حبيبي في مكان آخر , فأظل أنتظر في المنتصف ربما يخطو ناحيتي أو تخطو أشيائي ناحيتهِ أو يخطو الزمن مواسياً إياي على تلك الأحلام العريضة .
الحب لا يعترف بالأماكن, لكن الحزن يعترف بها, الطاقة الحزينة التي تتسرب من الأماكن الخاوية تجمد الروح و تجعل الهواء معلقاً في السقف فلا أستطيع اقتناصهُ للتنفس, حينما تغرقني الأماكن التي تنتظره معي فإنني أسبح في عشقهِ و أتكور بداخلهِ لأنام في قلبه كـمكان يحمل طاقة حبٍ تجعلني أستكين بفرحة.

09 يناير 2011

وحدها الأماكن تستطيع إخبارنا بما حدث


منشورة في أخبار الأدب 8 يناير 2011

رأيتهُ يعبر الساحة الواسعة أمام بيتنا ليدخل المبني الأسطواني المرتفع الذي يحمل في نهايته، بقرب السحاب، كرة مُكتملة الاستدارة . سارعتُ بالنزول بقميص منزلي أبيض قطني جديد . كانت ليلة العيد ، ومعدتي تتلوي من الوجع الذي اختلط عليّ سببه ، ربما انتظار العيد أو رؤيتي المفاجئة له . تسارعت خطواتي علي الأسفلت, احتكاك جلد باطن قدميّ كان يحرقني ، حينها لاحظتُ أنني كنتُ حافية في منتصف الطريق ما بين بيتي و بينه ، فأكملتُ بسرعة وتغلبت اللهفة علي الوجع . توقفتُ عند الباب مذهولة أمام سلالم صاعدة بشكل أسطواني لا نهاية لها علي مدي بصري, لكنني استعدتُ الاشتياق بادئة الصعود, لا أعلم كم من الوقت مضي لأجد أنفاسي مُتقطعة أمام غرفة تشبه كرة من الداخل, زجاجية لكنها مطلية بلونٍ أسود, فارغة لا تحوي سوي صندوق كرتوني مغلق دون حبال أو أي لاصق, صندوق عادي عليهِ كتابات بهتت بفعل الزمن . بحثتُ بنظري عنه مرة أخري لكنهُ اختفي . اقتربت من الصندوق بتمهل، جثوتُ علي ركبتيّ . بدأتُ في فتح أطراف الصندوق . وجدتُ جثة لامرأة تبدو ثلاثينية مُقطعة, مرصوصة فوق بعضها . الرأس الذي يحمل شعر أسود مع بشرة بيضاء شاحبة بفعل الموت كانت تستند علي باقي أوصالها بترتيب واضح، الرأس ثم الذراعين ثم الصدر والبطن، لتأتي الأرجل في قاع الصندوق علي هيئة حرف X . تراجعتُ بسرعة لأجد نفسي في غرفتي بمنزلنا، أمي جالسة بجواري تبسمل وتحوقل من الكوابيس التي لم تعد تراعي حرمة الأطفال كما في الماضي،ثم أكملت بنظرة منزعجة _ كمن اكتشف لتوهِ شيئاً غريباً _ أن هذا القميص القطني لن أرتديه مرة أخري لأنه يلتصق بجسدي مُظهراً بدانتي . نظرتُ إلي باطن قدميّ المسودين من تراب الأسفلت وهززتُ لها رأسي دون معني واضح .
لم أعد متأكدة الآن إن كنتُ شابهت تلك المرأة في عقدي الرابع أم لا، لكنني متأكدة أنه اختفي بنفس طريقة ذلك اليوم حينما كنتُ امرأة ثلاثينية .


بعد ذلك اليوم ظللتُ ملتصقة بالشباك الزجاجي الذي يطل علي الساحة التي في أيام الجمعة يقيمون فيها حدود الزنا والقتل والسرقة علي الضعفاء الذين فعلوا تلك الجرائم، لكنني لم أره حتي تركنا تلك البلدة, حتي تمنيتُ في أيام كثيرة أن يسرق فيقيمون عليه حد السرقة _ وهو أهونهم _ لأراه ، و حينما تتملكني أحلام اليقظة تلك، أبكي خائفة أن يَقتل فيُقام عليهِ حد القتل دون ذنب سوي أنني وددتُ رؤيته لمرة أخري في الحقيقة, بعيداً عن الحلم . لقد رأيتهُ لأول مرة في الحلم . كنتُ أطلُ من مشربية عتيقة تُشبه التي في بيت جدي لأبي، حينما مر رافعاً رأسه باتجاهي وألقي بنظرة حريرية تغنجت بها روحي . تحركت نسمات الهواء بجوارهِ حاملة إليّ رائحتهُ التي ظلت تراودني لعدة أعوام لأنها لم تكن عطره, إنما رائحة جلده, رائحة رجولية لم أعلم حينها أنها لا تناسبه .

الذكريات تحتلُ مساحات رحبة من عقلي لكن ليست كل الذكريات, فذاكرتي انتقائية . تمارس الرقابة، كل ما لا يعجبها ينمحي دون إرادة مني، الآن لا أتذكر جيداً حينما قابلته في المرة الثانية هل كان جالساً مع الرجل الذي استقبلنا في بيتهِ أنا وأمي؟ هل هرب دوننا حينما شب الحريق المفاجئ؟ كل ما أتذكرهُ أنني أمسكت بيد أمي وركضتُ ساحبة إياها خارجين من الحريق، ظللنا نركض محنيتي الظهر في تلك الأزقة واطئة السقف, الضيقة ، وهبطنا العديد من السلالم الحجرية التي لم أتذكر صعودي لها وقت ذهابنا, كنّا نختنق من الدخان, وكنتُ أختنق أكثر كلما تملكتني فكرة أنه هرب تاركاً إيانا . أمي أنكرت تلك الزيارة كلها, لتخبرني أن كل ما حدث يومها أن الأخري حدثتني لتخبرني بأنه لها وأنني لستُ سوي رماد كاذب لحريق لم يحدث .. بالطبع أمي أصابها الخرف قبيل موتها لأنه لم يكن هناك أخري لتحدثني .
كنتُ أصرخُ، أبي و أمي ميتان بجواري، أود أن أغسّلهما وأنا وحدي دون من يُعينني, لكن أبي الهادئ دوماً قام من مرقدهِ جالساً بجواري ثم ربتَ علي ظهري وبدأ يملي عليّ الأشياء التي يحتاجونها للغُسل الشرعي، أخبرني بمكان الكفنين في ضلفة الدولاب الوسطي أسفل ملابسهما المنزلية، ثم عاد وأستلقي من جديد علي سريرهما _ الذي جمعهما أكثر من ثلاثة عقود _ بابتسامة من أدي واجبه حتي النهاية, قمتُ من جوارهما أبكي و أصرخ بأنهما تركاني في ذلك البيت الذي لم يغادره سوي الموتي و من تبقي أصابهُ الجنون, ثم أنظر لهما و أنا أُخرج الكفن لأصرخ من جديد بأنهما اختارا الحل الأسهل وماتا وتاركاني للجنون, أترك غرفتهما وأهيم في البيت مكملة النحيب و باحثة عن ما أحمل فيهِ الماء . سمعتُ صوته يأتي من شباك بجواري, نظرتُ، لأجدهُ في شباك مقابل يزعق بأن صوت صراخي ملأ مواسير الحي بأكمله وسبّبَ إزعاجاً لا يُطاق, حدقتُ فيهِ وزعقتُ بأن أبويّ ماتا وسألته منذ متي و هو جاري؟ لكنه أغلق الشباك بعنف دون أن يواسيني أو أعرف الإجابة .

منذ صرتُ يتيمة الأبوين تسلطت عليّ عادة التفرس في الوجوه جيداً في مشاويري ، ربما أجده ليقاسمني الحياة . كنت تجاوزتُ الثلاثين بعامٍ أو عامين حينما رأيته يقطع الشارع إلي الجهة الأخري, ركضتُ وتشبثتُ بذراعهِ ، سحب ذراعهِ بهدوء ليخبرني بأنني كبرتُ قبل الأوان . بررتُ ذلك بغيابهِ و يُتمي، لكنه أدار وجهه ناحية الشارع الذي يهم بعبوره قائلاً فلتبحثي عن رجل يشاركك بؤسك واختفي . لم أتفرس في الوجوه منذ حينها . حتي استيقظتُ في يوم بعد عدة أعوام لأجد الفئران الميتة تفترش بيتنا متناقضة مع اللمعان الذي يسوده, فئران خارجة أمعاؤها في ابتذال يزعجني, أمشي بحذر متفادية تلك الجثث, أشعرُ بالاشمئزاز، القرف، الخوف كأن لعنة أصابتني . تفرستُ ملامحها حتي لمحتُ وجههُ بين القتلي، والجسد لفأر . في موتهِ سكن جسد أجبن المخلوقات . منذ ذلك اليوم والذاكرة لم تحمل مروراً جديد له . كدتُ أنسي ظهورهِ بحياتي بمرور الزمن، حتي سافرتُ مع زوجي إلي البلد التي قضيتُ بها طفولتي لأجده اختار ذات الحي الذي سكنه أبواي،حينها وجدتُ ذلك المبني الأسطواني الذي يحمل كرة سوداء زجاجية, يتوسط الساحة . ذلك المبني الذي أخبروني أنهُ شُيد منذ بضعة شهور، فقط .


Painting by:
VICTOR BREGEDA

Pipe Dreams - 30 x 20 inches Giclee on Canvas