13 أكتوبر 2011

غرفة ذات طلاء قديم و موكيت روز



أستيقظُ قبيل الفجر بساعة أو أكثر كعادة يومية لم تنقطع منذ ستة أعوام.. أظلُ مغلقة العينان حتى يتسنى لي استيعاب السكون من حولي, صوت الراديو يصدح كخلفية تأتي من مكان بعيد, ربما من السماء حيثُ تنتظرني منذ رحلت, قبل رحيلك لم أكن أستيقظ قبل السادسة و أنهض راكضة و متأججة بنشاط دائم كي أعد ملابسك و الافطار وأستحم ثم أوقظك لتبدأ نهارك معي.

تكره المكرونة و ابنتي تحبها على الرغم أنها تُشبهك في طريقتك, كل يومٍ تزداد عنداً و لامبالاة, تؤمن أن الحياة تحتاج بعض الملل في حبها كي لا ننكسر في قسوتها كما آمنت, لكن قلبك لم يحتمل قسوة الحياة فتوقف عن الدق لتتوقف عن مشاركتي تفاصيل يومك, لم أعد أجدك لأفتعل مشادة عن القائك ملابسك في كل مكان, فأنثر ملابسك في غرفتنا و أوبخ نفسي عن عدم التنظيم فألملمها و أتشممها ثم أعلقها في دولابنا من جديد و اتأملها, تلك البدلة التي في لون السكر كانت تجعلك وسيماً بسمرتك الهادئة, كنتُ أظل أعدل في ياقة قميصك و أفرد الجاكيت ثم أركع كي أعدل البنطلون مع الحذاء ليصبح منمقاً دون أي خطأ يشوبه, ثم نخرج فتحدثك زوجة ذلك الصديق بميوعة أستشعرها من نظراتها و ماآن نعود للبيت حتى ابدأ في اطلاق دفقات من النار بهدوء في أول الأمر و أنا أمثل انهماكي في ترتيب ملابسك التي خلعتها _وأنت مبتسم لصغر عقلي_ فيبدأ الجحيم مني لتخرج بهدوء تجلس بجوار ابنتك لتُشاهدا فيلماً قديماً و تتركاني أقذف كل وجع الغيرة و أنا أذرع البيت جيئة و ذهاباً لا أفعل شيئاً محدداً حتى اهدأ و ابدأ في تحضير العشاء و كأن شيئاً لم يكن و في غرفتنا أقبل رأسك باكية فتربت ضاحكاً معللاً بأنك تعودت على جنوني فلقد تزوجتني منذ كنتُ في الخامسة عشر, لم أكن زوجتك فقط, كنت ابنتك و مازلت.
رحلت ولم يعد بامكاني أن أغير أو أناوشك, فأصبحت أذهب لقبرك أشكو لك عِنّد ابنتك وقسوة الحياة و تَغَيُر الناس ثم ابدأ تأنيبك على رحيلك: (لم يكن اتفاقنا أن تتركني فلقد أخبرتني أنك أصبحتَ في مأمن عن الموت صغيراً لأنك تجاوزت ذلك ذلك السن الذي مات فيهِ أبوك و جدك و أصبحتَ مؤهلاً أن تعيش للثمانين كأعمامك, لكن الموت أعطاك مهلة فقط لتبلغ ابنتنا سن الواحد والعشرين, كانت مهلة خادعة أعطتنا الأمان لترحل فجأة.. كيف تجرؤ على الرحيل؟)

أعود من زياراتك بعينين متورمتين من البكاء فتتجاهلني ابنتك كأنها لم ترى أي شيئ, دوماً لا تحب أن تتدخل في أوجاعي كأنها تخشى العدوى مني, ربما هي فقط تفضل أن تظل متماسكة بقناع ثلجي على وجهها لكنها ما آن تسمع صوت مفاتيح على السلم تفضحها عيناها بنظرتها المسمرة على باب الشقة كأنها تنتظر دخولك ثم تعود للواقع فتقوم لتدفن نفسها في أي كتاب من كتبها العديدة دون أي تعليق, يوم موتك ظلت صامتة مثلك يوم موت أمك, كأنها ميتة لم تنطق سوى بتلك الكلمات الآلية التي ترد بها تعزية النسوة, فقط صرخت وقت خروجك ثم عادت لصمتها من جديد ولمدة عام ظلت ساهمة, ربما مازالت كذلك لكنها تداري كما كنت تفعل دوماً.

بيتنا أصبح خانقاً من دونك, كئيباً, بحوائطهِ الزيتية الغامقة و أرضيتهِ السوداء, لذا ما آن اقترحت ابنتنا أن نغير الدهانات و الأرضية في جملة عابرة _لم تكن تنوي تنفيذها حقاً_, حتى قررتُ تنفيذها ربما يقل الاكتئاب و تتذكر الحياة أننا مازلنا فيها, بدأت بالاتفاق مع العمال و اخترنا ألواناً فاتحة و بدأنا التغيير في ذلك الصيف بعد وفاتك بأربعة أعوام, لقد غيرت ابنتنا غرفتها و اشترت تلك المكتبة الكبيرة التي ظلت تحلم بها طوال عمرها حتى يتسنى لها رؤية كتبها جميعاً بنظرة واحدة و وضعت صورة لك بالأبيض و الأسود في منتصف المكتبة, كأنها تود أن تتذكرك و أنت دون هموم حقيقية .. كل صورك قبيل موتك كانت تنطق بالتعب من الاستمرار في الحياة, أنتَ تعرفُ أنها لا تحب تذكر الوجع والحزن لكنها حزينة دائماً لها عيون لوامة تصرخ دون كلام.. مثلك.
ما آن وصلوا لغرفتنا حتى تسمرتُ, كيف سيغيرون ذلك الموكيت الروز الذي اخترتهُ معك؟ سيتخلصون من تلك البقع المحترقة في أرضيته التي تذكرني بتدخينك و سهوك الدائم؟ طلاء الحوائط البيج الغامق الذي اخترناه في التسعينات حينما كان هو الرائج؟ تتذكر تلك التفاصيل و كيف أنك اشتريت لي في هذا البيت غرفة نوم جديدة و كأنك تتزوجني من جديد.. كيف سأغير تلك التفاصيل التي اخترتها معك؟ حينها قررتُ أن تظل غرفتنا كما هي وتحججتُ بأنه لا وقت ويجب أن ننتهي سريعاً, أعلم أن الوقت متاح لأنني في الواقع لا شيئ ورائي يدعوني للاستعجال لكنني قررتُ أن تظل رائحتك مستمرة في غرفتنا, كيف سأستبدل رائحتك برائحة زيت جديد مقزز يطرد أنفاسك التي مازالت هنا.. لقد تجرأتُ و غيرت التفاصيل حتى لا تظل تهيم في البيت كله.. فقط تظل هنا في غرفتنا حتى لا أبحثُ عنك ليلاً حتى أناجيك, فقط سأغلق الباب و أغير قميصي الأسود لأنك تكره الأسود ,وأجلس على ذلك الموكيت و حولي الجدران القديمة و أفتح دولابك و أذكرك بذلك القميص اللبني الذي كنت ترتديه فتصبح شبيهاً بممثلين السينما و أتحسس البقع المحترقة فابتسم متذكرة كيف كنتُ أظل أنهاك عن التدخين في غرفة نومنا و أخبرك أن لدينا بلكونة تصلح للتدخين, و الآن كم أنا فرحة أنك لم تسمع كلامي لتبقى رائحة دخانك هنا كي أتشممها, ثم أضحك متذكرة يوم أن أحرقت ذلك القميص البيج وأنت مُتعجل للخروج ثم أبكي لأنك لم تعد معي حتى أسمع صخب ضحكتك.

sadness painting by Noredin Morgan