06 ديسمبر 2019

اليوم الرمادي


حكاية بنت ضلت يوماً الطريق خارج مملكتها السحرية، تلك المملكة بداخلها بنات يحتفظن بتفاصيلهن الصغيرة المُبهجة.
...................................
كانت الغيوم يومها تغطي الأرض كلها، إنه اليوم الرمادي الذي لا يأتي سوى مرة واحدة كل سبعة عقود من الزمن، ذلك اليوم الذي يُفقد فيه نصف بنات المملكة ولم تعد منهن أي بنت لتخبرهن ماذا رأت.
 لكن كل عدة أعوام يجدنَ بنات صغيرات على البوابات دوماً يحملنَ ورقة مكتوب فيها أنها إحدى بنات أو حفيدات بنت سابقة واسمها واسم أمها أو جدتها!
...................................
بقيتُ بجوار النافذة طوال الليل أنتظرُ بداية اليوم الرمادي كما سمعت عنه من حكايات البنات القديمات، لقد عرفت أنني حفيدة جدة ضلت في اليوم الرمادي منذ أربعة عشر عقداً، استغربتُ قليلاً لأنني لم أفهم كيف يُصبحنَ البنات أمهات أو جدات، تلك الحكاية كانت تُضحكني أحياناً، لم أكذبها، ولم أصدقها أيضاً.
..................................
اليوم هو الذي ربما سيؤكد ما يحكونه، أو ينفيه، إنه اليوم الرمادي.
بدأ عند الفجر، بدا يوماً عادياً خاصة بعد أن غمزت لي نجمتي المُعلقة على الشجرة ثم منحتني بعض التين ليؤنسني في سهري كما تفعلُ دوماً، ثم بدأ ضوء النهار البنفسجي يتسلل عبر النافذة، حالة من الضحك أصابتني لأن سذاجتي جعلتني أصدق تلك الحكايات وقررت أن أذهب للنوم لكن النجمة منحتني هذه المرة شيئا لا يُشبه التين، لونه أحمر فظللتُ أقلبه بين يدي بإستغراب، حتى جاء الصوت من داخلي أنها "تفاحة" أرسلتها لي أمي، أمي؟ لا أعرف أمي، ولا أعرف كيف تكون الأمهات، لكن التوق لمعرفة كل تلك الأشياء جعلني أقضمها قضمة صغيرة ببعض التوجس، مذاقها حلو، فأكملتها ثم بدأ الضوء البنفسجي يُصبح مزعجاً بلونٍ فاقع، كيف أصبح النهار مزعجاً؟ لقد اختفت الغيوم من الأرض أيضاً، ثم غلبني النوم.

استيقظتُ لأجد بنت تنظر ليَ، لها نفس ملامحي لكنها تحمل تجاعيداً حول عينيها وفمها، تلك أول مرة أرى بنت متغضنة، حتى أنني فكرت أنها ربما نبتت كالتين على شجرة ثم قُطفت منها وتركت عدة أيام لتتغضن، نعم ذلك واضح بالطبع.
ابتسمت البنت لي ثم أخبرتني أنها أمي، لم أفهم، تلك كانت حكاية مُسلية و ربما ذلك حلم لأنني ظللتُ أفكر فيه، كل ذلك ليس حقيقياَ بالتأكيد. 
بقيتُ صامتة، اقتربت البنت المتغضنة مني فأجفلت ثم تركتها تحتضنني.
............................................
أيام وأيام أحاول العودة لمملكة البنات، لكن البنت المُتغضنة كانت تبكي ولا تتكلم حتى كفت عن البكاء يوماً وقررت أن تحكي حكايتنا، أحضرت لي ورقة ملونة عليها بنت مجعدة ذات شعر فضي و نظرة حزينة وبدأت كلامها.

"تلك جدتك التي ضلت من مملكة البنات منذ أربعة عشر عقداً، لم أكن أعرف تلك الحكاية حتى أخذتكِ يوماً لنزهة صباحية وعادت دونك، أعتقدتُ أنها فقدتكِ وظللتُ أصرخ وأبكي حتى أخبرتني أنها تركتك في مملكة البنات! لم أفهم وأعتقدتُ أنها جنت وذلك بدا منطقياً نسبة إلى عمرها الذي فاق المائة عام، فتركتها لأبدأ البحث عنكِ في كل مكان، حتى يئست وعدتُ اسألها من جديد، لكنها أصرت على حكايتها..!
حكايتها كانت مجنونة لا تصدق، مملكة تعيش فيها البنات، لا تتغير تفاصيلهن، لا يكبرن، تظل أرواحهن وملامحهن نضرة! لا تتغضن، ولا تصبح أي واحدة منهن امرأة، بالطبع لا تعرفين ماهي المرأة؟ إنها المرحلة التالية للبنت، تُشبهني، أنا امرأة، أرواحنا تثقلها التفاصيل، ولا نبكي لأن الحلوى نفدت منّا، لكن بكاءنا لأن الروح هي التي نفدت. لم أصدق جدتك في وقتها، لكنني كنت أحاول تصديقها حتى لا أفقد الأمل في عودتك، بالطبع لا تعلمين كيف يكون فقدان الأمل؟ 
ابتسمت الأم وأكملت: ثم جاء يوم موتها منذ عامين، أخبرتني أنني أستطيع استعادتك في اليوم الرمادي، وأخبرتني باليوم وبالطقوس، الطقوس أن أجلس بجوار شجرة التفاح التي زرعتها جدتك منذ زمن وأهمس لكِ كي تعودي.. وها قد عدتي
..........................................
حدث كل ذلك من زمن، حتى أنني أصبحتُ أتذكر مملكة البنات كحلم مررت بهِ حينما كنت صغيرة، كل التفاصيل الصغيرة المُبهجة ماتت يوماً بعد الآخر، التغضن سمة النساء في هذه الأرض، لم أستطع الغفران لأمي كلما مر الزمن. 
اليوم تركت ابنتي على بوابة المملكة ومعها رسالة لكل البنات اللاتي يتذكرنني ألا يضللن الطريق في اليوم الرمادي, ثم عدت إلى البيت وقطعت شجرة التفاح من الحديقة.

The painting: A Grey-day, Ypres, 1919