25 يناير 2014

لوحة


تم نشرها في أخبار الأدب بتاريخ 25-يناير-2014 .. لرؤية الرابط اضغط هنا


استيقظت لأجد نفسي لا أستطيع تحريك جسدي‮. ‬مسجونة بداخله لا أقوي سوي علي الرؤية‮. ‬غرفتي ذاتها،‮ ‬لكن الباب موارب‮. ‬أري منه أشخاصاً‮ ‬كثيرين يتجولون في الممر‮، أشكالهم‮ ‬غريبة‮، عجوز شعرها ملون ووجهها لا يقل تلويناً‮ ‬بأي حال،‮ ‬وبجوارها رجل يغطي وجهه بقناع أسود،‮ ‬وشابة تحمل كأساً‮ ‬وتمسك بيدها طفلاً‮ ‬يرتدي بدلة كلاسيكية‮. ‬ثم مر أحدهم يرتدي ملابس أوروبا في القرون الوسطي ويُمسك‮ "‬أكورديون‮" ‬ويبدو أنه يعزف ويغني،‮ ‬لكن لا أصوات تصل لي كأن هناك حاجزاً‮ ‬شفافاً‮، حاولت أن أصرخ لكن صوتي لم يخرج‮. ‬بدأت بتحريك فمي دون صوت‮، ثم أغمضت عينيّ‮ ‬لبرهة من الزمن ثم فتحتهما لأجد مكاناً‮ ‬لا ينتمي لزمان أو بقعة واضحة‮، مكاناً‮ ‬ضبابياً‮ ‬يخبرك ببساطة أنك مادمت تتجول فيه فذلك معناه أنك أصبحت في عالم لا ينتمي للواقع‮، لكنني فيه الآن‮، صور عارية تغطي حوائط الغرفة التي استيقظت فيها‮، حاولت النهوض واستجاب جسدي ببساطة‮، الأرض لونها أزرق‮ ‬غريب ولها ملمس يثير القشعريرة‮، رائحة ليمون طازج وزيت قرنفل يعبقان الهواء‮، رائحة‮ ‬غواية قوية تعبث بأرواح كل من تطأ قدماه تلك الغرفة‮، لا نوافذ ولا أبواب‮ ‬،هناك لوحة كبيرة تحتل نصف حائط عليها امرأة مرسومة من الخلف وكأنها تهم بالرحيل‮، عارية‮، جسدها لون النبيذ‮، وشعرها خيوط كستناء صافية‮، حينها لاحظتُ‮ ‬مقبض الباب البارز بداخل يدها‮.‬
خرجت بتردد فوجدت نفسي في قاعة كبيرة،‮ ‬هناك أرائك ووسائد‮، من يثرثر جالساً‮ ‬أو واقفاً‮، وجدت الغرباء الذين رأيتهم في ممر منزلي قبل المجيء وهناك الكثيرون ممن يشبهونهم في‮ ‬غرابتهم كأن المكان يجتمع فيه البشر من شتي الأزمنة‮، قابلتُ‮ ‬كثيرين ممن أعرفهم ويبدو عليهم أنهم يألفون المكان ويأتونه كثيراً‮، صافحوني بحميمية لا تحدث في الواقع‮، ربما هنا لا قيود ولذلك هم يعتزلون عالمنا‮، فالقيود مملة‮. ‬ضبابية المكان تبرز تفاصيلاً‮ ‬غريبة‮، الأرض تشبه السماء الملونة‮، قطع سحاب صغيرة تداعب أقدام الجميع‮، والسماء ليست هنا وبدلاً‮ ‬منها فراغ‮ ‬تنيره اضاءات من اللامكان‮، وسائد موشاة بخيوط ذهبية وأحجار ملونة‮، أرائك منتفخة يستلقي عليها البعض‮، جداول ماء تعبرها بخطوة واحدة وتحمل مراكب شراعية ويخوتاً‮ ‬صغيرة تتحركن وحينما دققت النظر فيها وجدت أناساً‮ ‬صغيرين يتحركون فيها وينظرون لنا باستمتاع كأننا عمالقة طيبون في قصة أطفال‮. ‬جلست بجوار أحد الجداول و أوقفت يخت بإصبعي لأتحدث مع البشر الصغيرين لكنني لم أسمع سوي أصواتاً‮ ‬عصبية لا تُشكل كلمات مفهومة،‮ ‬وصمت كل العالم حولي وهم يحدقون فيّ‮ ‬،فجأة ظهرت تلك الفتاة القصيرة السمراء الضاحكة لتحتضنني وتقبلني‮، حينها عاد الجميع لما يفعلونه كأن وجودها صك الغفران‮، بدأت تتحدث عن كل شيئ في وقت واحد وجل ما فهمته أنها سعيدة لأنني وجدت الطريق إلي هنا وحينما أخبرتها بأنه بيت متعة مبتذل لكنه في عالم آخر بتفاصيل‮ ‬غواية ضبابية‮، ابتسمت وربتت علي يدي كأنها تخبرني أن المكان لابد أنه سيعجبني‮.‬
‮ ‬أصرت الفتاة السمراء أن تأخذني في جولة لكنها أصرت أولاً‮ ‬أن أغير تلك‮ "‬البيجامة‮" ‬التي أرتديها وألبس شيئاً‮ ‬ما في قدمي‮، فأخبرتها ببساطة أنني جئت فجأة وليست معي أي ملابس،‮ ‬فضحكت كثيراً‮ ‬حتي قاربت علي السقوط علي الأرض،‮ ‬ثم أمسكت بيدي وقادتني وهي تقول‮:  ‬كنا جميعنا مثلك في الأول‮..‬حتي أنتِ‮..!‬
ساحة كبيرة مليئة بالدواليب وكأنها‮ ‬غرفة ملابس تليق بهذا العالم‮، الدواليب ضبابية فتكشف حيناً‮ ‬عما بداخلها ثم تعود وتعمل كما يجب أن تعمل الدواليب‮ ‬،أوقفتني أمام دولاب لا يختلف عن البقية،‮ ‬وهمست أنها علمته بعلامة صغيرة بقلم‮ "‬الروج‮" ‬الأحمر لأنها اكتشفت أنه علي وجه الخصوص يحمل فساتين من زمننا ومن بيوت أزياء عالمية ويجدد نفسه باستمرار‮. ‬فابتسمت وأنا أغمغم بأن بيوت الأزياء لا تتركنا حتي لو خارج العالم المعروف،‮ ‬يبدو أن التسويق لا يهتم بالحواجز الزمكانية‮. ‬اخترتُ‮ ‬لنفسي فستاناً‮ ‬أسود بياقة بيضاء وبلا أكمام‮ ‬،إنه اللون الذي أحبه لكن الياقات باللون الذي يحبه هو‮، ثم حينما التفت لم أجدها فأخبرت نفسي أنها ستجدني أو سأجدها ما دمت سأظل أمشي هنا‮. ‬خرجت من الغرفة لأجد نفسي في شبكة ممرات معقدة كأنها اللابيرنث حيث الحيرة إلي ما لا نهاية‮. ‬مشيت ببطء لكنني ارتبكت لأنني اكتشفت أنني نسيت أن أرتدي شيئاً‮ ‬في قدمي وقد اختفت‮ ‬غرفة الدواليب‮ ‬،فـقررت أن ذلك يليق بتلك السجاجيد الناعمة التي تفرش تلك الممرات والتي تمنحني إحساس الأمان بدلاً‮ ‬من القشعريرة‮ ‬،ما جعلني أبطيء أكثر وأكثر أن الحوائط مزينة برسومات تحكي حكاية ما‮، في ذلك الجزء كانت هناك امرأة تقترب من رجل وكأنها تقتله وتمثال امرأة سمراء بجوارهما‮, حاولت أن أختار الممر الذي يكمل الحكاية فدخلت الممر الأيمن لأجد القاتلة مقتولة بجوار القتيل ولا يوجد تمثال المرأة الأخري،‮ ‬عدت واخترت الممر الأيسر لأجد أن المقتول يبكي والمرأة التمثال تبتسم والقاتلة لم تعد موجودة‮, وحينما نظرت خلفي لم أجد الطريق الذي جئت منه لكن أمامي كان باب‮ ‬غرفة مزخرف بوشوم علي شكل ثعابين بأجراس والباب كأنه من الجلد البشري ففتحته لأجده هناك في أحضانه الفتاة السمراء التي استقبلتني في ذلك العالم‮, لذلك كان ينام كثيراً‮ ‬ليأتي لزيارتها هنا وربما يقابل الكثيرات منهن دون أن يعتقد أنني سأعرف ذلك العالم أبداً‮ ‬،لم يرني في ذروة نشوته لكن السمراء بطرف عينها رأتني وابتسمت ببساطة وحينها خرجت بهدوء لأجد الممرات اختفت،‮ ‬وهناك سلالم شاهقة تحتضن جبلاً‮ ‬في نهايته قبة زجاجية‮.  ‬بدأت ارتقي السلالم وقد أدميت واحترقت قدماي من الحجارة الخشنة وبقايا زجاج مكسور وسجائر لا تنطفئ وكان الضباب يغلف كل شيئ وكأن العالم اُختزل في تلك البقعة،‮ ‬فأكملت الصعود وكأنني ظللت أعواماً‮ ‬أصعد لكن في ليلة واحدة وحينما وصلت وجدت مدخل القبة ورائحة كراميل مألوفة, كأن هناك قدر يحمل أطناناً‮ ‬من السكر يغلي في مكان خفي, دخلت فوجدت قاعة دائرية وقبة زجاجية‮. ‬وفي المنتصف تمثال كبير لامرأة كستنائية الشعر ونبيذية الجسد تنظر لي بعينين زرقاوين ومرايا حولي في كل الاتجاهات‮، لقد رأيت إنعكاسي بفستاني الأسود ذي الياقات البيضاء وقدمي الداميتين‮، ورأيتني السمراء بالفستان الأبيض‮ ‬،ورأيتني عارية بـعينين زرقاوين وجسد كالنبيذ و‮... ‬رأيتني أبكي وأضحك‮, تدور المرايا حولي في رقصة لا تنتهي, كل التفاصيل أصبحت حميمية حولي‮ ... ‬وكأنني أذوب‮, ثم لا شيء‮.‬
‮ ‬وفي مكان ما ذابت الألوان من لوحة كانت تحمل حكاية لم‮ ‬تكتمل‮.‬


Black &white fluid painting by Mark Chadwick